الاختلاف من طبيعة البشر؛ نظرًا لاختلاف حظّهم من العلم، وقدرتهم على الفهم، وتنوع ميولهم، وتباين بيئاتهم.
وقد ورد الاختلاف في المسائل الاجتهادية عن الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة المعتبرين.
لكن اختلافهم تميز بأن أساسه فهم طبيعة الاختلاف، ورائده إصابة الحق والنصح للخلق، ومادته الحجة والبرهان من السنة والقرآن، وطريقته الرفق والحسنى، ونهايته الموافقة مع الأجر، أو عدمها مع التماس العذر، فاختلافهم لم يمنع ائتلافهم.
فهذا يونس الصدفي يقول: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة".
ولم يكن الاختلاف عندهم سببًا في انتقاص المخالف، أو اتهامه والتعريض به، أو بغضه والتحامل عليه. ولله درّ الإمام أحمد بن حنبل حيث قال: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا".
وكان السابقون أصحاب بصر وبصيرة، فأدركوا أن الاختلاف-في غير الأصول الثابتة المعلومة من الدين بالضرورة- كثير الوقوع، وينبغي أن لا يكون سببًا للشقاق، ولا طريقًا للافتراق.
بل إذا وقع الاجتهاد من أهله وفي موضعه، فكلٌّ وما أداه إليه اجتهاده لا يلزم أحدهم الآخر بقوله، بل لا ينكر أحدهم على الآخر فعله، وها هو الإمام سفيان الثوري يقول: " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحدًا من إخواني أن يأخذ به".
والإمام مالك كان من الفقه والورع بمكان عندما أراد الخليفة المنصور أن يعمل المسلمون بما في موطأ مالك ويدعوا ما سواه، فأبى وقال: "لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات.
وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردّهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم".
وإن كان النصح مطلوبًا، وبيان الحجة مرغوبًا، فقد سبقونا إليه، فذكروه وطبّقوه وأصّلوه، وما أجمع وأمتع وأنفع مقالة النووي في ذلك حيث قال: "ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأنه على أحد المذهبين:
كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسُنَّة أو وقوع في خلاف آخر".
هذا الاختلاف لم ينقص أسباب الائتلاف بل زادها، ولم يقوّض معالم الحرية بل شادها.
غير أننا نرى في الساحة الإسلامية اليوم صورًا مناقضة، فالبعض يريدون الاحتكار فلا صحة إلا لأقوالهم، ولا صواب إلا في اجتهادهم، ولا سداد إلا في آرائهم، وتجدهم يضيقون بكل من يخالفهم الرأي، ولا تجد عندهم روح التسامح ولا أدب الحوار، فتراهم إذا وردت مسألة وكان فيها اختلاف معهم احمرت وجوههم وانتفخت أوداجهم وعلت أصواتهم.
وغلت قلوبهم وكأنهم في ميدان معركة لا في مجلس مناقشة، وكأنما هم يحاربون الأعداء لا أنهم يحاورون الأصدقاء، بينما كان ابن قدامة صاحب المغني-أحد أوسع كتب الخلاف الفقهي- "لا يناظر أحدًا إلا وهو مبتسم". نعم؛ لأنه محب مخلص لا مبغض متربص.
إنني ليستبد بي الحزن عندما أرى شبابًا لا همَّ لهم إلا البحث عن الخلافيات، ويعنون بقضايا فرعية هامشية، ويطوّلون فيها الخلاف، فتتبدد جهود كان الأولى أن تصرف في ميدان أجدى وأحرى، وبعضها قضايا الخلاف فيها قديم ومشهور، فيعيدون ويزيدون ويفضي الأمر- للأسف- إلى التنابز بالألقاب، وتبادل التهم.
فهذا يصف أخاه بالتكبّر على الحق، والثاني يصفه بأنه لا يتبع السنة، وكل ينتقص قدر أخيه، ويحط عليه، بل وينفر الآخرين عنه، ويرقى الأمر إلى التقاطع والتدابر والهجر، وبذلك يكونون قد وقعوا فيما ثبت بلا نزاع النهي عنه في الكتاب والسنة من التباغض ونقص الأخوة.
والعجيب أن كثيرين من هؤلاء ليسوا من أهل العلم، فضلًا عن أن يكونوا من أهل الاجتهاد، فعلامَ إذن يخوضون فيما لا يعرفون؟ والأنفع لهم أن يشغلوا أنفسهم بالعمل الصالح، والعلم النافع، وأن يجتهدوا في تزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــ
الكاتب: علي عمر بادحدح
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية